التصحر البحري: صحراء صامتة تتمدد في أعماق البحار والمحيطات
وفاء الأحمدي
6/19/20251 دقيقة قراءة
عند ذكر كلمة "تصحر"، غالبًا ما ترتسم في أذهاننا صور الرمال الذهبية، نباتات الصبار الشوكية، وندرة المياه، وزحف الكثبان. لكن ما قد لا يدركه الكثيرون هو أن هذه الظاهرة لا تقتصر على اليابسة وحدها؛ بل تمتد إلى أعماق البحار والمحيطات فيما يُعرف بـ"التصحر البحري". هذا النوع من التصحر، الصامت والخفي، لا يقل خطورة عن نظيره البري. إنه يهدد الحياة البحرية، يقوّض تنوعها الأحيائي، ويغيّر ملامح الأنظمة البيئية تحت الماء بشكل جذري.
من الرمال إلى الأعماق: تشابه مفاهيمي
على الرغم من الاختلاف البيئي الواضح، هناك تشابه جوهري بين التصحر البري والبحري. فكما تتحول الأراضي الخصبة إلى قاحلة بفعل الجفاف وتآكل التربة والتدخلات البشرية، تتحول البيئات البحرية الغنية بالتنوع الأحيائي إلى مناطق شبيهة بالصحاري، خالية من الحياة أو تعاني من ندرتها الشديدة. هذه الصحاري المائية لا تتكون من الرمال، بل من مياه عكرة، قيعان جرداء، أو شعاب مرجانية ميتة، كل منها يروي قصة احتضار بيئي.
الأسباب: عوامل متكاتفة تفتك بالحياة البحرية
تتضافر عدة عوامل لتكوين هذه الصحاري المائية، بعضها طبيعي والآخر بشري، لكن يد الإنسان تبقى العامل الأكبر والأكثر تأثيراً:
* الاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة المحيطات: يؤدي ذلك إلى ابيضاض المرجان وموت الكائنات البحرية الحساسة للتغيرات الحرارية. هذا يحوّل الشعاب المرجانية النابضة بالحياة إلى مقابر صخرية بيضاء.
* تحمض المحيطات: امتصاص المحيطات لكميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي يؤدي إلى انخفاض درجة حموضة المياه. هذا يعيق قدرة الكائنات البحرية ذات الأصداف والهياكل الكلسية (مثل المحار والشعاب المرجانية) على النمو والبقاء.
* التلوث البحري: المخلفات البلاستيكية، النفايات الصناعية، ومياه الصرف الصحي تلقي بظلالها على البيئات البحرية، وتخنق الكائنات الحية، وتدمر الموائل الطبيعية، وتغير التركيبة الكيميائية للمياه.
* الصيد الجائر: الاستنزاف المفرط للثروة السمكية يدمر السلاسل الغذائية، ويخل بالتوازن البيئي، ويقلل من قدرة النظم البيئية على التعافي، تاركًا وراءه مناطق فقيرة بالحياة البحرية.
* تدمير للموائل: أنشطة التجريف، بناء الموانئ، وتمدد العمران الساحلي تدمر بشكل مباشر الشعاب المرجانية، ومناطق الأعشاب البحرية، وأشجار المانجروف؛ وهي موائل حيوية لتكاثر وتغذية العديد من الكائنات البحرية.
الآثار: مستقبل مظلم يلوح في الأفق
لا تقتصر آثار التصحر البحري على اختفاء بعض أنواع الأسماك أو تغير لون الشعاب المرجانية، بل تمتد لتشمل تبعات كارثية على النظم البيئية والمجتمعات البشرية:
* فقدان التنوع الأحيائي: اختفاء الأنواع البحرية يؤثر على التوازن البيئي ويقلل من مرونة المحيطات في مواجهة التغيرات.
* انهيار مصايد الأسماك: يؤدي نقص الأسماك إلى خسائر اقتصادية فادحة للمجتمعات الساحلية التي تعتمد على الصيد كمصدر رزق.
* تغير المناخ العالمي: تلعب المحيطات دورًا حيويًا في تنظيم المناخ، وتقل قدرتها على امتصاص ثاني أكسيد الكربون مع تدهورها، مما يسرّع من وتيرة الاحتباس الحراري.
* تهديد الأمن الغذائي: مع تزايد عدد سكان العالم، يُعد المحيط مصدرًا غذائيًا حيويًا، وتدهوره يهدد الأمن الغذائي العالمي.
مواجهة التحدي: دعوة للعمل الفوري
إن ظاهرة التصحر البحري تتطلب استجابة عالمية عاجلة ومدروسة. يجب أن تتضافر الجهود العلمية والسياسية والمجتمعية لمواجهة هذا الخطر المتنامي من خلال:
* تخفيض الانبعاثات الكربونية: التزام الدول بخفض انبعاثات الغازات الدفيئة هو المفتاح لوقف تحمض المحيطات وارتفاع درجة حرارتها.
* مكافحة التلوث البحري: فرض قوانين صارمة للحد من التلوث البلاستيكي والصناعي، وتعزيز إعادة التدوير، وتشجيع الممارسات المستدامة.
* إدارة مصايد الأسماك بمسؤولية: تطبيق سياسات صيد مستدامة، وتحديد حصص صيد معقولة، ومكافحة الصيد غير المشروع.
* إنشاء المحميات البحرية: حماية المناطق البحرية الحيوية وتخصيصها كمحميات تسمح للكائنات البحرية بالتعافي والتكاثر.
* التوعية والتعليم: نشر الوعي بأهمية المحيطات وتأثير الأنشطة البشرية عليها، وتشجيع الأفراد على تبني سلوكيات صديقة للبيئة.
إن التصحر البحري ليس مجرد مصطلح علمي معقد، بل هو واقع مرير يتكشف أمام أعيننا. هي دعوة لنا جميعًا، أفرادًا ومجتمعات ودولًا، لإعادة النظر في علاقتنا بالمحيط، والعمل بجدية لإنقاذ هذه المساحات الزرقاء الشاسعة من أن تتحول إلى صحارٍ صامتة. فمستقبل الحياة على كوكب الأرض مرهون بصحة محيطاتنا.
هل نحن مستعدون لتحمل مسؤوليتنا تجاهها؟
© 2025 موج – جميع الحقوق محفوظة
موج
هويتنا تنبض من أعماق البحر